الحرب السودانية- تحول الصراع إلى حرب الظلال والمسيرات

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين09.05.2025
الحرب السودانية- تحول الصراع إلى حرب الظلال والمسيرات

مع دخول الحرب السودانية عامها الثالث، تتضح بجلاء معالم تحول جوهري في أدوات وأساليب المواجهة الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة.

فقد تجاوزت الحرب نطاقها التقليدي الذي اتسم بالهجوم البري المباشر والاشتباكات العنيفة، ودخلت في مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ"حرب الأشباح"، حيث أصبحت الطائرات بدون طيار (المسيرات) هي القوة الفاعلة الأكبر في ساحة القتال.

في بداية الصدامات المسلحة، كان التفوق العددي يصب بوضوح في مصلحة قوات الدعم السريع، التي انتشرت على نطاق واسع في العاصمة الخرطوم، حيث بلغ تعدادها حوالي مئة ألف مقاتل، في مقابل ما يقرب من أربعين ألف عنصر فقط من القوات المسلحة السودانية. كما عانى هيكل الجيش من خلل واضح، تمثل في النسبة العالية للضباط مقارنة بالجنود.

وعلى الرغم من هذا التفاوت، تمكن الجيش السوداني من استيعاب صدمة التمرد المفاجئ، وتجاوز الضربة الأولى التي استهدفت مراكزه الحيوية، ثم بدأ على وجه السرعة في إعادة تنظيم صفوفه واستعادة السيطرة.

وكان من أهم العوامل الحاسمة في تغيير مسار المواجهة هو إدخال سلاح الجو، بالإضافة إلى الطائرات المسيرة كسلاح نوعي غيّر معادلة القتال.

لقد أتاحت المسيرات للجيش تنفيذ ضربات دقيقة استهدفت بدقة بالغة خطوط إمداد العدو، ومراكز القيادة، ومخازن الأسلحة، فضلاً عن تجمعات قوات الدعم السريع المحصنة داخل المدن.

وقد أسهم هذا الاستخدام المبتكر للتكنولوجيا المتقدمة في إضعاف قدرة العدو على التحرك والمناورة، وتحويل ميزة التفوق العددي إلى عبء لا فائدة منه. فقد نجح في تحويل كثرة أفراد قوات الدعم السريع إلى "هشيم كوهم السيل"

ومع مرور الوقت، تحول الجيش من وضعية الدفاع إلى شن الهجوم، وتمكن من تقليص مناطق نفوذ قوات الدعم السريع في مناطق عديدة، وتدمير بنيتها التحتية الصلبة، ودفعها نحو التشتت والتبعثر. وأصبحت بقايا قوات الدعم السريع مجرد عصابات ضالة تمارس النهب والتخويف في أجزاء متفرقة من البلاد، وغير قادرة على خوض معارك نظامية.

تجاوز إطار الحرب العادلة

لكن التطور الأهم – وربما الأشد خطورة- في مسار هذه الحرب، تجسد في نجاح قوات الدعم السريع مؤخرًا في الحصول على طائرات مسيرة واستخدامها، ليس فقط في ضرب مواقع عسكرية، بل ضد أهداف مدنية وحيوية.

فقد شنت خلال الأسابيع القليلة الماضية هجمات على محطات المياه والكهرباء في مناطق تسيطر عليها الحكومة، مما يعكس تحولًا في طبيعة الصراع من معركة ميدانية إلى إستراتيجية "الأرض المحروقة"، التي تهدف إلى تعطيل مظاهر الحياة، ومنع عودة النازحين واللاجئين، وإعاقة جهود إعادة الإعمار والاستقرار وتقويض فرص تحقيق النصر.

فقد شهدت البلاد المنكوبة في الفترة الأخيرة تصعيدًا خطيرًا في هذا النمط من الاستهداف، إذ تعرضت محطة كهرباء الشوك – 381 كيلومترًا جنوب شرق الخرطوم – لقصف مسير في 18 يناير/ كانون الثاني 2025، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن ثلاث ولايات هي: القضارف وكسلا وسنار.

ولم تكد تمضي أيام حتى طال القصف محطة كهرباء دنقلا – 530 كيلومترًا شمال الخرطوم – لتدخل الولاية الشمالية في ظلام دامس، كما شمل الاستهداف منشآت حيوية مثل سد مروي – 350 كيلومترًا شمال الخرطوم – مما تسبب في تعطيل جزئي لإنتاج الكهرباء.

وامتد القصف كذلك إلى قطاع المياه، حيث أصيبت محطة المنارة في أم درمان غرب الخرطوم، مما أدى إلى انقطاع المياه عن ثلاث محليات، كما أصيبت محطة المياه الرئيسية في القضارف، وهو ما دفع السكان المحليين إلى استخدام مياه النيل مباشرة والآبار كمصادر بديلة، وسط نقص حاد وارتفاع جنوني في أسعار المياه.

انعكست هذه الضربات بشكل مباشر على حياة المواطنين، إذ تعطلت المستشفيات والمخابز، وبعض مصانع إنتاج المواد الغذائية، فيما أبدى المزارعون في الشمالية خشيتهم من توقف محاصيلهم التي تعتمد في ريها على الطاقة الكهربائية.

تكشف هذه الموجة المتصاعدة من الهجمات بالطائرات المسيرة عن نية مبيتة لإطالة أمد المعاناة، وتحويل الخدمات الأساسية إلى أدوات ضغط، تضع المدنيين في مرمى النيران وتزيد من وطأة الحرب اليومية.

يثير هذا التحول المقلق تساؤلات مشروعة: من أين حصلت قوات الدعم السريع على هذه المسيرات المتطورة؟ وكيف تدير عملياتها المعقدة وهي تفتقر إلى البنية التحتية التقنية والكفاءات البشرية المؤهلة؟

تشير الإجابة المنطقية إلى أن قوات الدعم السريع لم تعد تقاتل بقدراتها الذاتية فحسب، بل تحولت إلى أداة في يد قوى خارجية لها مصالح متشابكة في السودان، وترى في هذه الحرب فرصة سانحة لتسوية حسابات إقليمية ودولية، بأقل التكاليف الممكنة.

وهنا، يصبح الصراع أكثر تعقيدًا مما يبدو للعيان. لم يعد الجيش السوداني يواجه تمردًا داخليًا محدودًا، بل يخوض معركة معقدة ضد مشروع إقليمي ودولي يستغل قوات الدعم السريع كقوة قتالية بالوكالة، فيما يظل المحرك الرئيسي مختفيًا وراء الكواليس، يحرك خيوط اللعبة، ويدير "حرب الظلال" عن بعد.

ومن منظور استراتيجي، يبرز سؤال مهم: هل كان من الحكمة أن يكشف الجيش عن قدراته التقنية في وقت مبكر؟

لقد سعى، بلا شك، إلى رفع الروح المعنوية في صفوفه، وإرهاب العدو بإظهار تفوقه النوعي، لكن هذا الكشف المبكر ربما منح الخصوم فرصة لدراسة هذه التقنيات، وفهم آليات تشغيلها، ومن ثم الحصول على دعم خارجي لتقليدها أو إيجاد طرق للتحايل عليها.

كما أن استعراض القدرات التقنية عبر وسائل الإعلام يمكن أن يتحول إلى سلاح ذي حدين، فهو يعزز الثقة في الداخل، لكنه قد يستفز خصومًا خارجيين ويغريهم بالتدخل، خاصة إذا شعروا بأن موازين القوى بدأت تميل ضد أدواتهم.

وإذا كان الجيش قد نجح في فرض توازن ردع قائم على استخدام المسيرات، فإن السؤال الأهم يبقى: إلى متى يمكنه الحفاظ على هذه الأفضلية؟ فالتكنولوجيا، بطبيعتها، سريعة التطور وسهلة الانتشار، وما يعتبر اليوم تفوقًا نوعيًا، قد يتحول غدًا إلى أداة عادية في متناول الجميع.

إن ما يحدث في السودان تجاوز نطاق المعركة العادلة لإنهاء تمرد مسلح، وأصبح ساحة مفتوحة لصراع متعدد الأبعاد. حرب تخاض بالأصالة أحيانًا، وبالوكالة في معظم الأحيان، وتستخدم فيها الأدوات غير التقليدية، من المسيرات إلى حملات التضليل الإعلامي، ومن المرتزقة إلى التصعيد الدبلوماسي عبر المنظمات الدولية.

ولعل الخطر الأكبر الذي يهدد السودان في هذا السياق، ليس فقط استمرار الحرب، بل عدم الاستعداد للتعامل معها بطبيعتها المعقدة. وعليه، فإن تحقيق السلام والاستقرار بمجرد قهر قوات الدعم السريع داخليًا، ودون تفكيك شبكة التدخلات الخارجية، هو قصر نظر لا يتماشى مع خطط بناء وطن وانتشاله من مستنقع الحرب المدمرة.

إن إدراك طبيعة "الحرب في الظلال" هو شرط أساسي لأي استراتيجية ناجحة للسلام، إذ لا يمكن مواجهة عدو غير مرئي، ولا تعرف حدوده، ما لم يتم تحديد من يقف خلف الستار، ويدير المشهد في الظلام.

ما السبيل للتعاطي عسكريًا وسياسيًا؟

لقد غيرت المسيرات طبيعة الحرب، فتحولت من أداة تفوق تقني في يد الجيش، إلى تهديد متصاعد يتسلل عبر الأجواء، ويضرب دون سابق إنذار، مستهدفًا أرواح المدنيين وأسس استقرار الوطن.

ولم يعد كافيًا التصدي لهذه الظاهرة بردود فعل أو إجراءات مؤقتة، بل بات من الضروري على الجيش السوداني أن يعيد صياغة عقيدته القتالية واستراتيجياته الدفاعية، بما يواكب طبيعة الحرب المستجدة.

على الصعيد العسكري، يجب على الجيش أن يعجل بتطوير قدراته في مجال الدفاع الجوي قصير المدى، والتوسع في استخدام تقنيات التشويش والرصد الإلكتروني، وإنشاء وحدات متخصصة في الحرب السيبرانية، قادرة على إسكات تلك الطائرات الحديدية قبل أن تنذر بالخراب.

كما أن التحديث المستمر لتكتيكات القتال، والتدريب المتقن للقوات، سيكون الضمانة الأهم للحفاظ على زمام المبادرة، في مواجهة خصم لا يتورع عن استهداف شاحنة مياه، أو محطة كهرباء.

أما على الصعيد السياسي، فإن المعركة لم تعد تقتصر على الخنادق، بل تمتد أيضًا إلى أروقة المنظمات الدولية وشاشات الإعلام. فتوثيق جرائم الحرب التي ترتكبها المسيرات، وكشف مصادر الدعم الخارجي، لم يعد ترفًا بل ضرورة وطنية تبرر المعركة وتؤسس لشرعيتها.

ويجب أن يصاحب ذلك خطاب دبلوماسي حصيف، يعيد تقديم الجيش كقوة مسؤولة تناضل ضد الإرهاب العابر للحدود، وتتحرك وفق استراتيجية إنقاذ لا انتقام.

وفي خضم هذا التعقيد المتزايد، تبرز الحاجة إلى وعي استراتيجي يدرك أن النصر لا يقاس بعدد الغارات الناجحة، بل بقدرة الدولة على استعادة وحدتها، وحماية المدنيين من لهيب الصراع، وتجفيف منابع التدخل الخارجي.

فالمسيرات وإن كانت تحلق بدون طيار، إلا أن من يوجهها غالبًا لا يهتم بمصير هذا الوطن، ولا بصرخات أطفاله. وهنا، يصبح وعي الجيش، وذكاؤه في إدارة "حرب الظلال"، الجسر الوحيد نحو بصيص أمل في نهاية النفق المظلم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة